إن الحمدلله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يُضلل فلاهادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كرّم بني آدم وحملهم في البرِّ والبحر، ورزقهم من الطيبات، وفضَّلهم على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، خلق الإنسان بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، هيأ له الأرض ودحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها، أنبت له الزرع، وأدرَّ له الضرع، خلقه في أحسن تقويم، وارتضى له الدين القويم، وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، كل هذا لأجْلِ أن يُعلي كلمته، ويطبق شريعته، فيأتمر بأمره، وينتهي بنهيه.
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، والرحيم الأُسوة، نبيٌ الأُميين، وإمام المتقين، ورحمة الله للعالمين، سيدنا محمد.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وطاعته، وأحذركم ونفسي معصية الله وعقوبته، فإن الميزان عند الله التقوى، فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه هداه وكفاه.
وبعد،
عباد الله: من سُنن الله في خلقه سنة التفاضل، فقد فاضل الله تعالى بين الأمكنة وبعضها، فمكة- البلد الحرام - ليست كغيرها، وكذا المدينة المنورة وبيت المقدس، وفاضل بين الأزمنة وبعضها، فيوم عرفة ليس كسائر الأيام، وفاضل أيضاً بين البشر وبعضهم، حتى فاضل ربنا جلَّ وعلى بين الرسل وبعضهم، فقال تعالى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ)).
فهؤلاء هم القُدوة والصفوة من الخلق، فإذا أراد إنسانٌ عزاً، فلا يطلبه في غير طريقهم، وإذا أراد رفعاً لذكره، فلا ينتهج بغير نهجهم، وهذا ما قاله ربنا لنبيه في سورة الأنعام بعدما ذكر عدداً من الأنبياء، فقال: (( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)).
القدوةُ عباد الله لها أثرٌ عظيم في نفوس البشر، فالله تعالى فَطَرَ الإنسانَ علي اقتدائه بغيره، هذه سُنةٌ آدمية، وفطرةٌ جِبلّيةٌ، يحتاج المرء من في حياته في كافة المراحل العمرية إلى قدوةٍ حسنةٍ تُنيرُ له طريقه، فيهتدي ولا يتخبط، وهذا لا يختص به إنسان دون آخر، فقد أمر الله نبيه بأن يقتدي بمن قبله من الرسل، رُغم أنه أفضلهم، فقال :((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)).
وقال: ((فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ )).
يحتاج الإنسان البيان العملي أمامه، فيكون خير مُعَلمٍ له، فيتخذ من أنبياء الله القدوة، وكذا أهل العلم والأدب والعمل، يقرأ سِيَرهم، وينهل من علمهم، ويُحاكي قدر الإمكان عملهم.
وهذا كان واضحاً جلياً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فكان -على سبيل المثال- قدوةً في البذل والعطاء.
روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ".
فهذا البيان العملي لا يحتاج لكثرة كلام عن النفقة والإنفاق، صباح مساء أو ليل نهار، بل هو درسٌ عمليٌ أبلغُ من ألف حديث.
وكذا أيضا، كان مِقداماً شجاعاً مغواراً، فكان إذا اشتد البأسُ في الحرب، وحميَ الوطيس، احتمى أصحابه به صلى الله عليه وسلم لشجاعته وجرأته، كما قال عليٌ رضي الله عنه.
فكان بمثابة القدوة لأصحابه، كان قائداً عسكرياً، وأباً حنوناً، وزوجاً رقيقاً، وإماماً رفيقاً.
كان يكون في خدمة أهله، وفي مقدم الصفوف في القتال، ويختار أشقّ الأعمال، فكان يجمع بين البيان العمليّ، والقول النظريّ.
وهكذا كان أصحابه وخلفاؤه من بعده، فهذا يُعرفُ بصدقه، وذاك يُعرف بعدله وهكذا.
وتبعهم على نهجهم أبناؤهم، لذلك أنت تسمع اليوم عن عمر بن عبد العزيز مثلاً، فينصرف ذهنك فوراً إلى العدل والزهد في الدنيا، رغم أنه امتلك مفاتيح أعظم الدول حينئذٍ.. وهارون الرشيد، الذي إذا سمع اسمه ملكٌ من ملوك زمانه، جفَّ حلقُه، وارتعدت فرائصه، هيبةً منه وإجلالاً له.
وأبي جعفر المنصور ومحمد الفاتح وغيرهم من قادةٍ وعلماء في الطب والفلك والحساب والجغرافيا والسيّر والتراجم، لا يُحصون عددا، ملأوا طباق الأرض علما، وصاروا قادة وقدوة.
والآن أيها الأفاضل، كم نحتاج اليوم إلى قدوات أمثال هؤلاء النوابغ بعد أن صرنا في ذيل الركب ومؤخرة الأمم؟؟
ولكن مهلاً يا أخي الكريم، لم لا أكون أنا وأنت هذه القدوة؟!
بدلاً من أن ننتظر شخصاً ما يقوم بالصلاح والإصلاح، ننتظر أنا وانت المُخَلِّصَ المنقذ، فتفنى أعمارنا وتذهب رؤوس أموالنا سُدى بلا طائل ولا فائدة.
لما لا تكون قدوة لولدك في بيتك؟
فبدلاً من أن تقول له لا تكذب، وتنهره عن الكذب، لما لا تُطبق هذا واقعاً أمامه؟، فيكون الصدق ديْدنك، وتقول له: إننا نحن المسلمون لا نكذب أبداً مهما كلفنا الأمر، ثم تذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم " إنَّ الصِّدقَ يَهدي إلى البِرِّ وإنَّ البِرَّ يَهدي إلى الجنَّةِ وإنَّ الرَّجلَ ليصدقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتبَ عندَ اللَّهِ صدِّيقًا وإنَّ الكذبَ يَهدي إلى الفجورِ وإنَّ الفجورَ يَهدي إلى النَّارِ وإنَّ الرَّجُلَ ليَكذِبُ ويتحرَّى الكذِبَ حتَّى يُكتَبَ عندَ اللَّهِ كذَّابًا". رواه البخاري
لم لا تكوني أنتِ يا أختي الكريمة القدوة لبناتك؟ فتغرسي فيهم منذ الصغر حب الحجاب والعفة والبعد عن السفه والشطط والخبائث المنتشرة في المجتمع؟
لم لا تحتفلي بها عندما تلبس الحجاب وتعطيها هديةً قيّمة تشجيعاً لها ولفعلها؟، فتحيا عزيزةً شامخةً بدينها وحجابها وحيائها ومبادئها.
أيها الشباب لم لا نكون نحن القدوة لأبنائنا في المستقبل، فنَجِدُّ ونجتهد في تحصيل العلم والعمل بذلك العلم في شتى المجالات، في البحث والطب والصناعة والزراعة؟
فتكون شاباً مسلماً فَتيّاً، تؤدي صلاتك، وتحافظ على صحتك ولياقتك، وتلتحق بأفضل الجامعات.
أخلاقك بين الناس حسنةٌ، وسيرتك بين الناس بالخير سابقة، ومع هذا متميزاً في دينك ودنياك، فلا تعارض بين هذا وذاك.
فيأتي ولدك، وقد مَثُلَ أمامه نموذجاً عملياً لرجلٍ مسلمٍ ناجحٍ، حينما تحين الصلاة، لا تُقدِّم عليها شيئاً إلا بعذر، فتَعظُم هذه العبادة في قلبه، حينما تكون في ضائقة، لا تمتد يدك أبدا إلى حرام، رغم ما تعانيه، فتكون قدوةً له في أكل الحلال، وهكذا تباعاً.
أيها الكرام، تاريخنا حافلٌ بالقادة والأبطال في شتي مناحي الحياة، غمروا الأرض بعلمهم وجهدهم وأياديهم البيضاء على البشرية، والناس تجني ثمار جهدهم إلى الآن، وحاضرنا ولله الحمد مليءٌ بقصص النجاح الملهمة من النساء والرجال الذين إذا ذهبت تُحصيهم عدداً لطال بك المقام.
ولكن مازلنا نحتاج إلى أعداد أكثر بكثير لنثبت لأنفسنا أولاً ولغيرنا ممن يختلف معنا في العقيدة أو العِرق أو الأرض، أننا ولله الحمد نمتلك كل مقومات النجاح والقيادة التي نستطيع بها النهوض بالبشرية على أساسٍ نقيّ من الصدق والأمانة والجّد والعمل.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
أحمد الله إليكم جل جلاله، وأصلي وأسلم معكم على النبي وآله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها المسلمون، إن الإنسان مجبولٌ على أن يكون في حياته نموذجاً ما يقتدي به، إما في الخير أو الشرّ، فالذي سار في طريق الغواية والضلال، لابد وأنه رأى شخصاً فعل ذلك فذاع صيته وانتشر أمره، فأعجبه صنيعه، ففعل فعله، فكان له قدوة، ولكن قدوة سيئة.
وذاك الذي اختار طريق العلم والعمل، لابد وأن رأى أُنموذجاً صالحاً قد مَثُل أمامه، أصبح مصدر إلهامٍ له، فتتبع أثره، وأحب منهجه، فكان له قدوة حسنة.
ولكن الإشكال هنا أيها الإخوة في معيار اختيار القدوة، خاصةً في هذا الزمان الذي انقلبت فيه الموازين واختلّت، وانتكست فيه الفطرة وانحرفت، فأصبح الآن يُقدَّم أصحاب الفن الهابط والمحتوى التافه الفارغ البذيء، الذي لا يُقدم نفعاً مطلقاً، فضلا ً عن كم الضرر الذي يُسببه.
ويستهوي ذلك الشباب الناشئ، الذي يُفترض أن يكونوا آباء المستقبل!!، فينجذب الشاب إلى قصة شعر هذا الفنان، أو إلى رقصة هذا اللاعب، بل وأحيانا يُسمي نفسه باسمه، وأصبح جُلُّ المؤثرون هم التافهون الذين لا يوزَنون بمثقال ذرة من علم ولا أدب !، يركبون أغلى السيارات، ويسكنون أفخم المنازل، ويُقدمون كقدوات في كُبرى المحافل!!، وأهل العلم حبيسي أبحاثهم وجامعاتهم ودروسهم، لا يعرفهم سوى طلابهم ومريديهم.
انقلبت الموازين، وتكلم التافه في أمرِ العامة كما أخبر النبي عن علامات الساعة، وهذا له أسباب عديدة، منها اختفاء القدوة.
ويأتي هنا في المقام الأول دور الأسرة الجوهري.
يجب على الآباء أن يغرسوا في أبنائهم إجلال العلم وأهله، وألا يغتروا بهذا الزبد، الذي قريباً -إن شاء الله- سيذهب جُفاءً، وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
يواجهوا هذه الرياح العاتية، من تشويه الأكابر، وتحطيم الأصول والمبادئ، بواسطة الإعلام السيء، والفن الهابط، الذي يُلمع الخبث والخنا والفُحش والعُري.
اغرسوا في أولادكم حب الله، وادفعوهم بلطف إلي المساجد ومجالس الصالحين، أعطوهم من أوقاتكم، كونوا لهم مثالا صالحاً يُحتذى به في الصدق والعلم والعمل واستغلال الوقت فيما ينفع، بدلا من إهداره بلا طائل ولا نفع.
علموهم أن الإنسان يُقيَّمُ بمقدار ما يُقدم من نفعٍ لمن حوله، وبما يتركه من إرثٍ صالحٍ ورائه، فتلحقه دعوات الناس، وتظل صحيفته مفتوحة حتى بعد موته، بدلاً من آخر، قد أفسد في الأرض، وخلّفَ ورائه ذنوباً جاريات، فتظل أيضاً صحيفته مفتوحة، ولكنه يحمل وزره ووزر من كان سبباً في إضلاله من بعده.
شجعوهم على طلب العلم وحفظ القرآن وممارسة الرياضة والاهتمام بالقراءة.
اعطوهم الهدايا بعدما ينتهون من قراءة كتاب أو يحققون مركزاً بين رفقائهم، أعطوهم الثقة ليتكلموا في التجمعات ويُظهروا مواهبهم في التحدث والرسم والإنشاد وغيرها.
بذلك، ومع مرور الأيام ينشأ لدينا جيلٌ سليم النفس، قوياً في دينه ودنياه، ومن ثمّ يكون قدوة لمن بعده، وهكذا إلى أن يُختم للإنسان وهو قائم على ثغرٍ عظيم.
ولنتذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم "مَن دعا إلى هُدًى كان له مِن الأجرِ مِثْلُ أجورِ مَن تبِعهُ لا ينقُصُ ذلك مِن أجورِهم شيئًا، ومَن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه مِن الإثمِ مِثْلُ آثامِ مَن تبِعهُ لا ينقُصُ ذلك مِن آثامِهم شيئًا."
رواه مسلم.
والحمد لله رب العالمين