عباد الله:
تعاهدنا معكم أن نتناول في خطبنا المشاكل اللصيقة التي تحيط بنا جميعاً في مجتمعنا في البلاد الغربية، ذلك أن إعادة اجترار نفس المواضيع الموسمية كل عام لا يتناسب مع متطلباتنا الملحة الحالية.. بل إن استيراد الخطب من علماء وفقهاء لا يعيشون معنا لا يتناسب كذلك مع شرط العلم بأحوال المستفتي كما ينص الشرع الحنيف أن يكون المفتي على درايةٍ وثيقةٍ بها.
لذا فإن موضوعنا اليوم هو أيضاً خارج سياق المألوف من الخطب، لأنه يتحدث عن مشكلة مجتمعيةٍ حادةٍ يقع فيها أغلب من يقيم في هذه البلاد، ألا وهي الاكتئاب، والذي يلقبونه في الطب (بمدخل إلى الدائرة الشيطانية)، والسبب في هذه التسمية هو أنه يحتاج إلى أدويةٍ تحسن أعراضه، لكنها تضيف أعراضاً أخرى كثيراً ما تزيد من مسببات حالة الاكتئاب نفسها، مثل أن يزداد المصاب في الوزن، فيكون ذلك سبباً جديداً لاكتئابه، وهكذا.
يقيناً لسنا في درسٍ طبيٍ أو جلسة علاجٍ نفسي.. لكن حديثنا اليوم به بعض الجوانب الطبية والتي لا مناص من الحديث عنها حين نتناول مثل هذه الموضوعات الحساسة والمتفشية بين غالبيتنا.
وإذا ما أوجزنا عن الأسباب الجديدة التي نجدها محفزةً على الاكتئاب هنا في هذه البلاد، فإننا نجدها باختصار:
أولاً: رمادية الشتاء، والتي تعتبر طبياً من العوامل المساعدة على ذلك، فالتعرض للضوء يعتبر مساعداً على الشفاء من الاكتئاب، ونقص الضوء يساعد على زيادته.
ثانياً: حقيقة وجود المشاكل اللغوية بكثرةٍ بيننا، لا سيما بين الكهول مننا، وهم من تجاوزوا الأربعين.
ثالثاً: نسبة البطالة الكبيرة، التي تشعر الواحد منا أنه أصبح لا قيمة له في المجتمع، بعد أن كان يصول ويجول في بلاده قبل أن تلجئه الظروف إلى الحياة هنا.
رابعا: أثر انتشار مرض كورونا على قلة التواصل بين الناس وما صاحب ذلك من تضييقات.
فهل هذا يعد وضعاً قائماً لا مجال للفرار منه؟
إن من يقول بذلك لا يفقه حقيقة الإسلام، ولا يدرك ما رواه لنا أبو هريرة رضي الله عنه عن رسولنا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه، حين قال: (مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً).. وقد زاد الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أسامة بن شَريكٍ عن الدواء قوله صلى الله عليه وسلم: (علمه من علمه وجهله من جهله)..
إن علاج مشكلة الاكتئاب -التي نكاد نراها في كل أسرةٍ تقريباً يا إخوة- إنما يرتكز في رأينا الديني والطبي على خمسة محاور، هي:
أولاً: أن تثق في الله، وأن تمتلئ أملاً به.. وهذه موجودة لدى الجميع، لكنها فقط تحتاج إلى بعض التنشيط الحقيقي داخلنا بما يكفي لاحتياجاتنا الفعلية.
ثانياً: أن تدرك أن الحل بيدك، لا بيد غيرك.. فابتلاء الله لك، لا لغيرك، وقديماً قالوا ما حك جلدك مثل ظفرك.
ثالثاً: أن تزيد من نشاطك الاجتماعي بكثافةٍ كما أمرك الله، ودونما ثمة تقصيرٍ، وليس داخل أسرتك الصغيرة فقط.. ونحن وإخوانك معك ونساعدك.
رابعاً: أن تزيد من حركتك ونشاطك الرياضي.
وخامساً: أن تزيد من تعرضك للضوء الذي هو من مباهج الحياة.
وسنتناول فيما تبقى من الخطبة الأولى الثلاثة الأوائل..
أخي الكريم..
لو سلمنا أنا وأنت ابتداءً أنه لا علاج لهذه الدائرة الشيطانية الصعبة، فقد يئسنا، واليأس ليس من صفات المؤمنين الواثقين بالله، بل الأمل هو من أهم صفات إيماننا.. وهذه هي بداية طريق العلاج الصحيح.. أن تكون مفعماً بالأمل في الله، ممتلئاً بداخلك ثقةً به.. تاركاً أمرك كله لمن عليه التكلان، فقط علينا السعي، وعلى خالقنا ومالكنا النتيجة، فهو يحب أن يساعدك، لكن بشرط أن يرى فيكَ ثقةً فيه سبحانه، فمن من الملوك يرغب في مساعدة عبدٍ يشكك في قدرات الملك ويركن إلى قدرات العبيد؟!
لكن مهلاً أخي الكريم.. فهذا ليس كل ما في الأمر.. الموضوع لا يُحل فقط بالتوكل على الخالق، فهو نفسه الذي نبه على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوضح لك الحل في قوله: (اعقلها وتوكل).. أي أن عليك أولاً أن تعقلها، بمعنى أن تأخذ بالأسباب، وهنا لنا وقفة.. فما هي الأسباب التي لا نأخذ بها في واقعنا الحالي، ونضطر حينها إلى الاكتواء بنار الاكتئاب عوضاً عنها؟ ابحث عنها جيداً، واجعلها مهمتك الأولى.
واعلم يا أخي -حماك الله- أن من أقوى أسباب الاكتئاب هو أن تركن إلى غيرك، فالحل فقط بيدك بعد خالقك.. وإن انتظرت أن يشفق عليك الغير، فقد تنتظر طويلاً جداً، لأنه لن يقتنع غيرك بمساعدتك ابتداءً، بل سيظن أنك تتدلل على مَن حولك، وتريد منهم التنازلات وفقط، وهو لا يدرك أنك مريضٌ فعلاً، ولن يشعر بألمك قدر نفسك.. فهل تظن أن الله قد جعل حلك بيد غيرك الذي لا يشعر بك؟ حاشا لله أن يفعل بك هذا.
ثم لنكن منصفين، فمن منا لديه تلك الطاقة الجبارة التي تكفي لحل مشاكله كاملةً وتفيض لكي يحل لك مشاكلك؟!
لو رأيت هذا الإنسان، فلا تفلته من يدك أبداً، فإنما هو ملاكٌ بكل تأكيد..!!
تتخيل أنك لا تستطيع مواجهة مشكلتك بنفسك؟ لا يا أخي الكريم.. فقط ارجع إلى قوله تعالى: ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها))، وحينها ستعلم أنك قادرٌ على حل مشكلتك فعلاً بنفسك، بنص الآية الكريمة.
لكنك ربما تكون ممن قال فيهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: (علمه من علمه، وجهله من جهله)، أي أنك قد تجهل الحل، وهنا عليك أن تبحث عنه.. واعلم أنك مأجورٌ على مجرد بحثك عن الحل، فما بالك لو وجدته وأجدت في الامتحان الذي وضعك الله فيه؟
حينها سنهنئك مرتين، الأولى للشفاء من هذا الداء الكئيب، والثانية لعظم الثواب الذي حصلت عليه لسعيك الدؤوب في حل مشكلتك والتفوق في ابتلاء ربك لك.
ثم، إنك لست وحدك، فإخوتك معك، يمدون أيديهم لك، جميعنا نستطيع مساعدة بعضنا البعض، فقط نشترك ونشارك معاً في أنشطتنا المجتمعية التي حددها لنا الإسلام كي يساعدنا على حياتنا وما بها من مشاكل كهذه.. وإلا فلماذا تظن أن الله قد جعل لنا الجمعة والأعياد والعديد من الفرص والمناسبات؟ ولماذا شدد الله على صلة الرحم، وقال بأنه قد اشتق اسمها من اسمه سبحانه وتعالى؟ ولماذا أكد رسولنا على التزاور وعيادة المريض وغيره.. ألم ترَ يا رجل أن الإمام في المسجد يُسَن له أن يؤخر الصلاة حين يراك قد تأخرت عنها وأنت الراتب المواظب معه؟ لماذا ينتظرك؟ لأنك مهمٌ في هذا المجتمع الذي بذلت أنت مجهوداً مجتمعياً فيه من قبل.. فلا تنسلخ أخي أبداً عن شدة التواصل مع مجتمعك.
لماذا كل هذا؟ لأن الإسلام هو الدين الأول في العالم الذي يراعي النفس، ويعمل على أن تكون في أفضل حالاتها.. لقد أمرك الله أن تترك طائرتك وأنت ذاهبٌ لفريضة الحج التي جمعت لها أموالاً ضخمة كي تؤدي خامس ركنٍ في الإسلام، أمرك أن تترك كل ذلك، لمجرد أن تطلبك أمك إلى جوارها.. فأي الأديان يراعي النفوس كديننا؟!!
قد ترى هذا كثيراً، ويخيل لك الشيطان أنك ستخسر كذا وكذا لو أنت أطعت الله ونفذت كل هذه الأخلاق والشيم التي يعدها العالم في أعلى وأرقى مراتب الأخلاق، حتى أن العالم يراها أكثر من كونها مثاليةً.. وأنت قد تستجيبَ لشيطانك اللئيم، فتتنازل عن هذا الرقي، وتخاف على مصالحك الدنيوية، وتظنها أهم.. وقد أنساك الشيطان أن الدنيا كلها ملكٌ للرحمن الذي أمرك بكل هذا.. فهل تظنه يأمرك وينساك؟
إياك يا أخي أن تتفلسف وترفض هذا وتتحجج في ذاك، فإن أنت فعلت ذلك، فلا تنتظر إلا اعوجاجاً وسقماً، فلن تستقيم لك الحياة لأنك رفضتَ خطة الخالق التي وضعها لك لتفلح في معترك الحياة وابتلاءاتها، وظننت أن هذه كلها رفاهياتٌ زائدةٌ، لا قيمة لها.. وعليك الآن أن تتحمل نتيجة تعاليك هذا على حلول الإسلام للحياة.
إخوة الإسلام.. علينا أن نمد أيدينا إلى بعضنا كما أوضحت قبل قليل، علينا أن نلجأ إلى تقوية علاقاتنا مع بعضنا البعض، إياكم أن تهربوا من التقارب فيما بينكم، سيصور لكم الشيطان أن جميع البشر غير مناسبين لكم، أو أنهم لا يستحقون منكم كل هذا الخير.. وهذا في حد ذاته صحيحٌ جزئياً، فالناس ليسوا بملائكة، ليسوا مثاليين يستحقون كل خير، بل أنت أخي الذي تكرمهم لأنك تعلمت الكرم من خالقك الذي أمرك بالتواصل معهم والإحسان إليهم.. فإياك مرةً أخرى أن يخدعك الشيطان بأفكاره الساذجة، وعندما تجد ما يمنعك عن الخير، قف وتمعن قليلاً.. وعندها ستجد الرد على شيطانك بسيطاً.. أنا لا أزور أخي لأنه زارني من قبل، ولا أكرمه لأنه كريم، بل لأن الكريم هو من أمرني بذلك.. وحينها ستجد أنك تتحلى بأرقى الأخلاق في العالم، ولن يكون للاكتئاب مكانٌ في قلبك.
وأرجوك مرةً أخرة أخي الكريم ألا تظن أن هذا فضلٌ منك لا يجب عليك فعله، وأن إمكانياتك لا تسمح به.. فقد كانت المرأة في البادية لا تملك إلا شاةً هزيلةً، لا لبن فيها، وقد نزل بها رسول الله ومن معه، فأين لها أن تكرم كل هذا العدد وهي لا تكاد تكفي نفسَها؟! أليس هذا كان سيكون سؤالك لو كنت في مثل موقفها؟
لقد تركَت الأمر لله، وعلمَت أنه سيدبر لها الحل، ما دامت أنها تعمل وفق أوامره.. ثم جاء فعلاً الحل من عند الله، بأن مسح الرسول صلى الله عليه وسلم على ضرع الشاة، فامتلأ باللبن، وشرب الجميع، وفاض الباقي.. لقد أحسنت المرأة الظن بالله فأحسن الله إليها.. فهل يمكنك أن تفعل مثلها؟ صحيحٌ لن يأتي إليك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ليحل لك المشكلة، لكن سيأتيك رسلٌ آخرون من الله، سواء كانوا في هيئة بشرٍ أو حتى جماد.. المهم أن تكون مع الله أكثر، ليكن الله معك أكثر.
نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا، اللهم أعنَّا ولا تُعِنْ علينا، اللهم لا تَكِلْنا إلى أعمالنا ولا إلى أنفسنا طرفة عين، يا أرحم الراحمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنما قوة السيف بضاربه.
===========================
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
أما بعد..
عباد الله:
تحدثنا في الخطبة الأولى عن ثلاثة محاور للشفاء، كانت زيادة الثقة بالله، وإدراك أن الحل بيدك لا بيد غيرك، ثم ضرورة زيادة العلاقات المجتمعية خارج الأسرة.
بقي لنا في هذه الخطبة أن نتناول آخر اثنين من العوامل الخمسة المطروحة للحل، وأن نختم بزيادة الفضل السادسة إن أردتم.
إخوتي الكرام.. الشفاء من وجهة نظرنا يتطلب خمسة أو ستة عوامل، لكنه من وجهة النظر الطبية يتطلب ثلاثة فقط، جمعها الأطباء العرب في اختصار أسموه (حضن)، أي اختصار الكلمات الثلاثة: حركة، ضوء، ناس.
أما وقد تناولنا الناس في آخر خطبتنا الأولى وأكدنا حينها على الضرورة القصوى لزيادة العلاقات المجتمعية خارج الأسرة، فإنه يتبقى لنا الآن محوران:
الحركة والضوء.. ونحمد الله أننا نعيش هنا بين طبيعةٍ خلابةٍ يحسدنا القاصي والداني عليها، بل يأتي إليها أغنياء بلادنا الأم كل عامٍ، فقط كي يمتعوا أعينهم برؤية هذه الطبيعة الجميلة من حولنا.. والأجمل من ذلك أننا نجد المجتمع هنا واعياً لأهمية الرياضة، ممارساً لها بشكلٍ يوميٍ، بل إنك تكاد ترى الغالبية منهم يرفضون حتى استخدام المصعد في أماكن سكنهم، ويفضلون صعود السلم كجزءٍ من الرياضة الواجبة عليهم.. فهل ترى نفسك أقل منهم؟
عليك أن تقارن، تماماً كما يسأل أحد من نعرفهم من أشهر الأطباء العرب مرضاه ناصحاً: هل تريد دواءً يحل لك مشكلة الحركة، ويزيد من مشاكل أخرى؟ وتظل متنقلاً بين الأطباء والمستشفيات؟
أم أنك تستوعب أن مجرد الحركة فعلاً ستحل لك مشاكل عديدة؟ ستتلاشى أمراض الضغط والمفاصل والسكري، وستكون كلمة اكتئاب جد غريبةٍ عليك حينها.. ألا ترى معي أن هذه الأمراض فعلاً يعاني منها الكبار الذين يرفضون الحركة؟ فلماذا نقبل أن نكون منهم؟!
الحركة لن تحل لك مشكلة الاكتئاب وحدها، بل ستفيدك مباشرةً في مشاكل أخرى جمة.. صدق أو لا تصدق..!!
أما آخر العناصر فهو أسهلها، وهو أن تعرض نفسك للضوء ما أمكن، لا سيما في الصيف الجميل لهذه البلاد، والذي يطول حتى تكاد تتساءل متى ينتهي النهار؟!
ولو دمجت الحركة مع التعرض للضوء فستكون من أسعد الناس وأبعدهم عن الاكتئاب.. جرب ولن تجني إلا الفوائد فقط، إن شاء الله تعالى.
وأخيراً وختاماً بعد هذه العوامل الخمسة نذكر زيادة الفضل، وهي أن علينا أن نحل مشكلة البطالة فيما بيننا، والحق أنها زيادة فضلٍ في رأينا لأنها الأصعب بينهم جميعاً.. فحلها يتطلب تضافر الجهود الشخصية والمجتمعية والحكومية.. كأن نحل مشكلة ضعف مستوى اللغة أولاً، وقد قدمنا لكم فيه مساهمتنا في إتاحة دورات اللغة للأمهات، على أن نراعي أطفالهن أثناء الدروس.
ثم نرى بعد ذلك ضرورة أن يتجه المرء في السن الكبيرة مباشرةً إلى العمل الخاص، بعد استحضار عوامل النجاح وإتقان اختيار المجال الذي لا يتسبب في خسائر ماديةٍ على الأغلب.. وهنا نعد لكم خلال أسابيعَ قليلةٍ ندوةً عن ذلك.
هذا ما استطعنا تقديمه لكم اليوم، وندعو الله أن يعيننا جميعاً على حل مشاكلنا، شكر الله للراغبين والقائمين على حلها، على السواء.
وهنا نقف ونختم حديثنا بلا إطالة، ونترك لكم القرار..
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على مهامنا، وأن يهدينا وإياكم سبيل الرشاد....