عباد الله:
حديثنا قد يكون مناسباً لمقالٍ في جريدةٍ أو حتى لكتابٍ ملفتٍ للأنظار.. لكننا سنسعى في خطبة اليوم لتحليل بعض سلوكيات المسلمين في الغرب، التي يكتسي كثيرٌ منها بلباس الخوف، والذي للأسف لا يزال مسيطراً على جزءٍ منا ويتحكم في تصرفاتنا، حتى صرنا نرفض غيره.. فلو عرضت على بعضنا الحرية سيرفضها رفضاً قاطعاً، وهذا هو ما وجدناه واضحاً للعيان في العديد من المواقف مؤخراً.
بدايةً الخوف من البشر هو سلوكٌ سلبيٌ، بل حتى مالك الكون لا يريدك بالدرجة الأولى خائفاً منه، فالرجاء عند الله أولى وأعلى مكانةً من الخوف منه.. وها هو سيدنا آدم لم يخَف في الجنة أن يأكل من الشجرة المحرمة، لأن الخوف لا مكان له في الجنة، ولا يجب أن يكون المحرك الأوحد لنا في الحياة.
انظر معي إلى طريق الأنبياء والصالحين الذي بينه الله تعالى في كتابه في سورة الأنبياء، فبعد أن ذكر الله عدداً منهم قال: ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))
فقدم رغباً قبل رهباً.. نعم، الإسلام ليس مبنياً على الخوف المحض كما العديد من الأديان غير السماوية، وكما يفعل أهل الديكتاتورية في شعوبهم.. ولا أتحدث هنا عن بعض أو كثيرٍ من زعماء العرب المزعومين، بل أيضاً هنا في الغرب يوجد ديكتاتوريون ينتظرون فقط الفرصة، والتاريخ مفعمٌ بقصصهم، بل حديثاً ربح أحدهم انتخابات أكبر دولة والمفترض أنها الأكثر حريةً بمجرد نشره فكرة الخوف بين جماهيره، فاستخدم سلاح الخوف من الغير ليفوز بأصوات الناس الخائفين، إذ صور لهم أنه هو من سيأتي ليحميهم.. وللأسف الشديد فإنه على الرغم من بساطة هذه الفكرة وسذاجتها الفائقة والتي لا ترقى حتى لأن تكون فكرةً لفيلمٍ كرتونيٍ لصغار الأطفال، إلا أنه واقعٌ يقبله بل ويستسيغه الكبار.
لكن لنعد إلى قومنا وأمتنا.. فالواقع المؤلم يؤكد لنا أن غالبيتنا قد تربت على الخوف، في البيت كما خارجه، حتى أننا أصبحنا نحب العبودية لغير الله مهما تبين لنا أنها باطلة وأن ما نجله ليس إلا ديكتاتوراً محضاً.. انظروا إلى شعوبنا العربية، حين مات الملك فيصل لم يحزنوا كثيراً لأنه كان يحاول أن يكون عادلاً ولا خوف منه، لكن حين مات حافظ الأسد حزنوا جداً وأغلقت المحال أبوابها واعتزل الناس مظاهر الحياة، وكأنهم قلقون على أنفسهم من بعده..! وغيره كثيرون، التاريخ مليء، لكننا كنا قد وعدنا ألا نتحدث في سياسة الدول العربية ولهذا السبب لا نريد أن نسهب في هذه القصص التاريخية مهما كانت هامة.
ولنترك القصص التاريخية ونعود إلى حاضرنا المعاصر، وسأروي لكم موقفاً حدث مع أحدكم قبل أيام، لتدركوا مدى الرعب الذي بداخل بعضكم دونما سبب..!!
فقبل أيامٍ قليلةٍ أعلنا أننا بحاجةٍ إلى متطوعين ليشرفوا على النشاط الرياضي في عدة مدنٍ أخرى بخلاف دوسلدورف، وكان دورنا سيقتصر على استئجار الصالات الرياضية وتوفيرها بالمجان للمسلمات اللاتي لا يجدن مكاناً يمارسن فيه الرياضة بحريةٍ نظراً للحجاب الذي يرتدينه.. فجاءتنا بعض الاتصالات من الراغبين في التطوع والإشراف، وتحدثت مع أحدهم، وهو الذي بدا متحمساً للغاية، وأعرب عن أمله في المشاركة في أكثر من نشاطٍ لنا في مدينته دويسبورج.. فقلت له يا أخي إننا نعمل على توحيد كلمة المسلمين، لكن مع الالتزام الكامل بالقوانين الألمانية، وهدفنا هو أن يأخذ المسلمون حقوقهم دونما زيادةٍ أو نقصان، ورؤيتنا ببساطة تنعكس على عدة أنشطة، منها مثلاً أن يتوحد المسلمون في مدينتكم في صلاة العيد، فتدرك إدارة المدينة حجم المسلمين واتفاقهم أخيراً على قلب رجلٍ واحدٍ، فتلبي رغباتهم لاحتياج ساستهم لأصوات المسلمين.. هكذا بالضبط كان الحديث، ولم أزد.. لكن الرد كان حاسماً من الطرف الآخر، لقد أغلق الحديث وقاطعنا تماماً.. وكأننا رهطٌ من الإرهابيين نريد تجنيده..!!
إنه الخوف يا سادة.. الخوف الذي زرعوه فينا طيلة عشرات السنين، فأصبحنا لا نرى غير ما يريدوننا أن نراه.. وهنا أستحضر تلك القصة المضحكة المبكية، التي يتندر بها الناس عن أحد الدكتاتوريين العرب الراحلين، حين كان يدرب ابنه ويقول له: دوخ شعبك، يكن مثل صغار الدجاج، إن دوختهم في القفص لن يرغبوا في الخروج منه ولو تركت لهم الباب مفتوحاً طيلة الوقت..!!
يا الله.. لقد صدق الرجل، فهذا هو حالنا بالفعل.. حتى بعد أن تركوا أوطانهم لا يزال الرعب يملؤهم، ويستعذبون لعب دور الضحية دوماً.. فالدولة هنا تتيح لنا عديد الفرص، ويبقى فقط أن نطلبها، لكننا لا نطلبها، لأننا لا زلنا نعيش المثل الذي علمونا إياه وحفروه بأذهاننا بأن العين لا تعلو فوق الحاجب، وأفهمونا أننا عبيدٌ نتلقى الأوامر فقط، ولا يجب حتى أن ننظر أمامنا، فنحن لسنا إلا منقادون كما يريدون لنا.
فهل نحن فعلاً خائفون من الحرية؟
الغريب يا إخوة أن مرض الخوف من الحرية يزداد ويستفحل مع مرور الوقت كما السرطان أعاذكم الله.. فكلما كان الشخص طاعناً في السن، كلما تمكن منه المرض و وجدتَه خائفاً من الحرية.. فلو نظرنا إلى مواطني الدول العربية، ستجد أن أكثرهم معارضةً للثورات والحرية، هم كبار السن، وستجدهم مرضى بمعنى الكلمة، وكأنهم مسحورون والله.. ستجد الأب مستعداً للإبلاغ عن ابنه إن وجد فيه ميلاً للحرية..!!
و والله يا إخوة لا أبالغ فيما أقول، فقد رأيت كثيراً من هؤلاء الآباء، يتصرفون وكأنهم مخبرون في جهاز أمن الدولة أو بالأحرى جهاز أمن الحاكم.. بل سمعت بأذني قصصاً من بعض الفقراء يتباهون بإبلاغهم عن فلان لأنه كان من أهل الخير وكان يعطيهم من الصدقة والزكاة، فقُبِضَ عليه بالفعل.. إنهم كالمجانين يتباهون بجنونهم، لقد صُعقتُ مما رأيت وسمعت، وأدركت أن هؤلاء لم يعودوا بشراً عاديين، بل مسخاً على شاكلة البشر من الخارج فقط وأنهم باتوا كمن تم تنويمهم مغناطيسياً، يفعلون ما يراد منهم فقط، وبدون أدنى تفكيرٍ قط.. فعدت أدراجي إلى ألمانيا وأنا أحمد الله أنني قد نجوتُ من أن أكون من هذا المسخ البشري.
نسأل الله أن يعنا على أنفسنا، اللهم أعنَّا ولا تُعِنْ علينا، اللهم لا تَكِلْنا إلى أعمالنا ولا إلى أنفسنا طرفة عين، يا أرحم الراحمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنما قوة السيف بضاربه.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
أما بعد..
عباد الله:
تحدثنا في الخطبة الأولى عن مدى تفشي مرض الخوف من الحرية فينا كعرب، وعرفنا أنه كلما دوَّخ الزعيم المزعوم شعبه، كلما أطاعوه وخافوا من الخروج من القفص ولو كان مفتوحاً طيلة الوقت.
لكن المشكلة تكمن في أننا لا نريد أن نعيد الكرة هنا ثانيةً، والواضح للعيان أنها يمكن أن تتكرر هنا معنا، مهما كانت الدولة ديموقراطيةً.. فها هي فرنسا التي تتشدق بالديموقراطية، تضيق على المسلمين بشدةٍ، لأنه لا أحد فيها يدافع عنهم، ولأنهم ارتضَوا ذلك وظنوه الطبيعة التي يجب أن يرضخوا لها كما كانوا في بلادهم يفعلون.
فهل نستمر في غَيِّنا وننتظر بكل رضى دورنا عند المقصلة التاريخية؟
إن أولادَنا لن يرحمونا، لأنهم لن يروه طبيعياً ما ترونه أنتم اليوم عادياً.. ثم إننا لا نطالب بثمة ثورةٍ أو ما شابه ذلك، فالدولة هنا ليست بحاجة إلى هذه الثورات ابتداءً، بل هي تعطيك حقك إن أنت طالبت به.. هكذا ودونما مجهوداتٍ كبيرةٍ أو تضحيةٍ بالأرواح كما فعل أهل الثورات.. الموضوع هنا فعلاً بسيطٌ، لكنه سيكون في غاية التعقيد غداً إن نحن لم نستغل بساطته اليوم.
وما الغريب في الأمر حينما نطالب بأن تكون صلاتنا في العيد موحدة في حديقةٍ واحدةٍ وبإمامٍ واحدٍ، بهدف إظهار وتكثير سواد المسلمين، أليس هذا من سنة نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه؟ لماذا كان يريد أن يباهي بكثرتنا؟ ولماذا يصر البعض على مخالفته في ذلك.. لقد كان لنبينا رؤية عميقة، فهل نترك فهمه العميق لحلول مشاكلنا ونصمم على الفُرقة؟! أم هو الإصرار على أن يكون كل شيخٍ إماماً في مسجده؟ ليس هذا من شِيم المسلمين يا إخوة.
إخوتي الكرام.. إن الأصوات باتت تعلو في السياسة الألمانية يوماً بعد يومٍ، ولا نريد أن ننتظر الطامة الكبرى فوق رؤوسنا.. بعد أن تساءل وزير الداخلية السابق عن مدى انتماء الإسلام والمسلمين إلى ألمانيا، بات اليوم الحديث عن الإسلام السياسي، وأنه يجب أن يكون من المحرمات في ألمانيا.. ونحن نتساءل هنا بدورنا عن سبب تحريم الإسلام السياسي في حين أن الحزب الذي كان يحكم قبل أشهرٍ قليلةٍ اسمه الاتحاد الديموقراطي المسيحي؟
إننا لو صبرنا كما كنا نصبر في بلادنا، فلن تقوم لنا قائمة.. وسيتأكد حينها أننا نستعذب لعب دور الضحية في كل زمانٍ ومكانٍ.
والحل بكل وضوحٍ هو.. إما أن نفيق لأنفسنا ويتحد المسلمون في كل مدينة؟ أو أن نفقد الأمل في كبار السن لتفشي مرض الخوف من الحرية فيهم، ونترك الأمر للشباب ونعمل معهم ولهم.. وإلا حلت بنا جميعاً الطامة كما أسلفنا.
وهنا نقف ونختم حديثنا بلا إطالة، ونترك لكم القرار، ليتحدد دورناً مع مَن سيكون؟
نسأل الله أن يعيننا وإياكم على مهامنا، وأن يهدينا وإياكم سبيل الرشاد..