عباد الله..
لا يشك عاقلٌ في أن الجهل بأدب الاختلاف هو من أشد عوامل الهدم الفاعلة في أمتنا، حتى أن الفتن قد بلغت ذروتها حين وجدنا الأخ يقتل أخاه لأنه مختلفٌ معه لأي سبب، وما قصة هابيل وقابيل عنا ببعيدة.
وفي الوقت الراهن بلغت الاختلافات الرُبى، حين بات الأب يتهم ابنه بأنه إرهابيٌ، لمجرد اختلافٍ في وجهة نظرٍ سياسيةٍ معه.. حتى نما إلى أسماعنا مؤخراً بأن المرأة تبلغ الشرطة عن خطيبها الذي تركها، وتتهمه بأسهل وفي نفس الوقت أشنع تهمة، ألا وهي الإرهاب كالعادة..!!
فلمَ كل هذا؟ ولماذا لا يتسع صدرنا للاختلاف مع الآخرين، مع أننا ندرك تماماً أن الاختلاف هو من سنن الله الكونية في خلقه جميعاً، حتى أن بعض المربين يكرر للمقدمين على الزواج بأن الرجل لو كان له أن يتزوج ممن نشأت وتربت معه في بيت أسرته طوال سنوات حياتهما سوياً، وتحت رعاية نفس ولي الأمر وربما نفس الأم ونفس الظروف، فإنها حتما ستكون مختلفةٌ عنه كما تختلف أخته عنه بطبيعة الحال.. فطبيعة البشر هي الاختلاف، وعليهم أن يتفهموا ذلك ويتعلموا كيف يتعايشون مع هذه الطبيعة الإنسانية التي لا شك فيها ولن تتغير أو تنمحي من الكون.
وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال:
هل فعلاً نعي طبيعتنا وأننا مختلفون؟ وهل نستطيع التعامل مع هذا الاختلاف كما يجب؟
الواقع يقول لنا بأننا لا نعي ذلك ولا نعرف كيف نتعامل معه، أو بالأحرى لا نقبل ولا نتقبل الآخر لمجرد اختلافنا معه، والذي هو طبيعة الكون كله أساساً..!
ثم إذا اختلفنا، فهل نعرف آداب الاختلاف؟ وكيف نتحاور مع الآخرين، حتى لو كانوا مختلفين عنا؟
وهنا نستحضر القرآن لنا معلماً، ونستذكر طريقة الحوار التي علمها لنا ربنا في حديثه -جل في علاه- إلى إبراهيم وموسى وغيرهما.. وكيف أنه سبحانه لم يغضب حينما سأله جدنا إبراهيم قائلاً: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).. هل ترون أشد من ذلك؟
إنسانٌ ضعيفٌ يطلب من رب الكون كله، وليس من ملكٍ لمساحةٍ من الأرض يسمونها دولة في كوكب حقيرٍ ككوكب الأرض،.. ماذا يطلب؟ إنه يطلب أن يريه كيف يحيي الموتى؟ يطلب أصعب ما يمكن أن يتخيله الإنسان بعقله المحدود.. يطلبه من رب العالمين وخالقهم..!
فماذا كان جواب ملك الملوك والكون كله؟
إن ربنا هنا يعلمنا حسن الحوار، والرحمة من عالي المكانة إلى ضعيف المكانة، وتحديداً من ملك الكون إلى رجلٍ استضعفه قومه نفسهم لدرجة أنهم أرادوا حرقه في النار حياً.. لم يغضب الله منه، ولم يحمل سؤاله على محمل المهانة التي لا تليق به في عليائه سبحانه..! بل كان ودوداً معه في الحوار رغم كل ذلك، وكان عملياً جداً في إجابته عليه في سورة البقرة فقال له: (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
وذات الحوار يتكرر مع موسى عليه السلام، وهو في أشد حالات ضعفه، حينما كان مطارداً من أهل مصر، ورغم ذلك طلب رؤية الله عز وجل، فلم يغضب الله منه.. بل رد عليه رداً عملياً أيضاً، وتجلى للجبل، حتى يفهِّمه عملياً بأن ذلك مستحيلٌ للبشر بسبب طبيعتهم المحدودة خلقياً في الحياة الدنيا.
فهل فهمنا ذلك نحن أيضاً؟؟
هل وعينا الآن كيف يكون الحوار؟ وكيف نرد على أسئلة محاورينا ولا نصنف ما نسمع أبداً على أنه إهانة؟ طالما كان في إطارٍ يمكن وصفه بأنه منطقيٌ، حتى لو كان يمكن تأويله على أنه تقليلٌ من ذاتنا.. فالرد يكون بهدوء، وبمنطقٍ يقابل السؤال المنطقي، ثم ننتقل للنقطة التي بعدها، وهكذا يكون الحوار بين العقلاء، لا أن يتحول إلى بغضٍ وعداوةٍ.
إخوتي الكرام.. إننا لو تمعنا في القرآن الكريم لوجدنا الكثير من حلول مشاكلنا، لكن العائق الأكبر هنا هو أننا نسمع الآيات ونمر عليها مرور الغافلين، دون أن نتدبرها ونفهم مغزاها أو حتى معناها..
إن غالبية من يسمع هذه الآيات يتذكر قصة إبراهيم، وكأنه يرى فيلماً كرتونياً فحسب.. دون أن يتعمق أكثر من هذا المستوى شديد السطحية.. إننا نصر على أن نفهم الآيات بنفس مستوى فهمنا ونحن أطفال، ولا نريد تطوير أنفسنا وفهمنا لكلام ربنا إلينا..!
أدعوكم هنا أيها الإخوة أولاً إلى تعديل طبيعة سماعنا لآيات قرآننا الكريم.. وثانياً إلى ضرورة اتساع صدرنا للآخر، مهما كانت درجة اختلافه معنا، وأن نرد عليه بالمنطق المحض، اقتداءً برب العزة والجبروت حينما رد على إبراهيم وموسى بكل هدوءٍ منطقيٍ وهما في أشد حالات ضعفهما..
وهنا أختم الشق الأول من حديثي وأسأل الله أن يعنا على تصحيح ما لدينا من أخطاءٍ،.. فاللهم أعنَّا ولا تُعِنْ علينا، اللهم لا تَكِلْنا إلى أعمالنا ولا إلى أنفسنا طرفة عين، يا أرحم الراحمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنما قوة السيف بضاربه.
=========================
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
أما بعد..
عباد الله.. إن الله سبحانه وتعالى يوضح لنا طبيعة الاختلاف بين البشر قائلاً:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
إننا سواءٌ شئنا أو أبينا مختلفون بطبيعة حالنا، أو قل أحوالنا.. ولم يشأ الله أن يكون ذلك سبباً للتنافر مطلقاً، بل جعله سبباً للتعارف، ثم بين بعد ذلك أن أكرمنا هو أتقانا، وأوضح أن التقوى والنية الحقيقية يعلمها الله العليم الخبير بدقائق القلوب وخفاياها..
فلماذا نصر نحن أن يكون اختلاف ألسنتنا وألواننا في الظاهر، سبباً لعمق الاختلاف في الباطن؟ ألم يقل الله لنا في سورة الأنعام: (وَذَروا ظاهِر الإثْمِ وَبَاطِنه)..؟!
إن المسلمين كانوا أمةً واحدةً لا ينظر المرء فيها إلى لون أو شكلٍ، لا يفرق فيها بين عمر بن الخطاب وبين بلال بن رباح، بين من كان سيداً في الجاهلية، ومن كان عبداً فيها، بين الأبيض والأسود..
أفبعد كل هذا الرقي الإنساني الرائع، نتحول من دولةٍ وأمةٍ واحدةٍ إلى سبعٍ وثمانين دويلةٍ متشرذمةٍ، وأصبحنا من أهون الشعوب في الأرض بعد تفرقنا.. وعلى نفس الأرض الشريفة التي كان لا يتم التمييز بين عمر وبلالٍ فيها، أصبحنا نرى قمة التمييز، لدرجة أنني سمعت والله بأذني طالباً من الخليج يشتم زميله في المدرسة ويعايره قائلاً: يا مصري!!.. وكأن وصف مصري أو سوري مثلاً أصبحت شتيمةً يعايَر بها المرء في جاهلية هذا الزمان..!! وذلك يحدث على نفس أرض بلال وعمر الطاهرة كما ذكرنا.. ثم نريد أن يحترمنا غيرنا بعد ذلك؟؟!!
إن معظم اختلافاتنا اليوم مردها إلى عوج في الفهم نتج عن أمراض النفوس من الكبر والعجب بالرأي، واعتقاد أن الصواب والزعامة وبناء الكيان إنما يكون باتهام الآخرين حتى لو بالباطل، الأمر الذي قد يتطور حتى يصل إلى الفجور في الخصومة.. لأن الانشغال بعيوب الناس، والتشهير بها، والإسقاط عليها، لم يدع لنا فرصة التأمل في عيوب أنفسنا، ونسينا قول القائل: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب النّاس..
إن الإسلام يختلف في أحكامه الفقهية في ذات الأمر الواحد، وفي ذلك سعة.. وقد رأينا المذاهب الأربعة تختلف فيما بينها حسب روايات الحديث المنقول عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، والتي فعلها رسولنا عن عمدٍ ليؤكد لنا إمكانية الاختلاف.. ويروى أن الشافعي حضر إلى المدينة وفيها مالك، وقد صلى على مذهب الإمام مالك احتراماً له وتأكيداً على صحة الاختلاف وكونه إثراءً وليس مثاراً للتباغض مثلاً.. بل إن الشافعي قد اختلف عن الشافعي نفسه حينما رحل من أرضٍ إلى أرضٍ، فاختلفت آراؤه وتحليلاته الفقهية بما يناسب المعطيات الجديدة في الأرض الجديدة، وبما لا يخرج عن الإطار العام للفقه الإسلامي دونما إفراط ٍ أو تفريطٍ.
لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سبباً لافتراقهم، لأن وحدة القلوب كانت أكبر من أن ينال منها شيء، لقد تخلصوا من العلل النفسية العفنة..
أتذكرون قصة الرجل الذي بشّر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بطلعته عليهم وأخبرهم أنه من أهل الجنة، وكرر ذلك ثلاثة أيامٍ متتاليةٍ؟ لقد جهلوا أمره، ولما تتبعوه ولم يجدوه يقيم الليل ولا يكثر من العبادات، سألوه، فتبين لهم أنه فقط لا ينام وفي قلبه غلّ على أحد..!
هل لا زلت ترى للاختلاف مكاناً في قلبك يا أخي الكريم؟ أم أنك أصبحت الآن تدرك فعلاً وحقاً أن الاختلاف لا يفسد للود قضيةٍ كما يقولون؟.. أرجو أن يكون الله قد وفقك في هذا اليوم لتعديل تصوراتك عن الاختلاف، وألا تنتصر لنفسك وذاتك فيما بعد، بل للحق.. وللحق فقط..!
أدعو الله العلي الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا جميعاً على حسن وإتقان تربية أنفسنا من جديد.