عباد الله..
لعل أكثر وأهم ما يجول بخاطر الآباء والأمهات هو السؤال: هل نجحنا في مهمتنا الرئيسية في الدنيا؟ ألا وهي تربية الأبناء..
ويكمن الخطر هنا في أن تجاوب نفسَك جواباً خطأً، فتظن أنك قد أكرمت ابنك بمزيدٍ من الحرية وربما بعض الأموال والمتع، وتعتقد أنك لم تحرمه من شيءٍ أبداً، وأنت بالفعل قد حرمته من الجنة ونعيمها، بل قد لا يشم ريحها أصلاً.. ثم تظن أنك أكرمته؟!!
ألم تسمع يا أخي قول الله عز وجل واصفاً حال بعضنا: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ وقال أيضًا: ﴿ رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ ﴾
إن سعادة الأولاد الحقيقية هي التي تكون في الآخرة، ولا مانع في أن تكون في الدنيا والآخرة، لكن الخسران المبين هي أن تكون في الدنيا دون الآخرة، وكأنك تعطيه أثناء الرحلة من الطعام والشراب ما يطيب له الخاطر، بل وربما بنيت له سكناً ومرتعاً في استراحة الرحلة، ونسيت أن تعينه وتهديه بيتاً في مستقره بعد انتهاء الرحلة، فماذا سيقول عنك ابنك حينها؟ ألم تحسب لذلك اليوم حين يقف يشكوك أمام رب العالمين بأنك أسأت تربيته وأنه افتقد فيك القدوة الحسنة وكذا وكذا؟!!
إخوتي الكرام..
كيف نصل إلى الإحسان في تربية الأبناء؟
أولاً وقبل كل شيء اجلس معهم كثيراً، وتحدث وافتح الأبواب للحوار والنقاش ما أمكنك، وتذكر أنه يجب أن يكثر الحديث بينكم أكثر من ذي قبل بكثيرٍ جداً، لأنك أصبحت تقريباً الباب الوحيد أو الأهم الذي يمكن أن تأتي منه رياح الصلاح إلى قلب ابنك، في مقابل الأبواب الكثيرة الأخرى من حوله، والتي لا يأتي بالخير كثيرٌ منها.. فهل أدركت أهمية الحوار معه بكثافةٍ الآن؟ عليك أن تجعل لنفسك معه عدداً وحداً أدنى من ساعات الحوار والنقاش، وكن له فيها صديقاً مخلصاً، ومرشداً أميناً، لا عنيداً ولا رجعياً، بل تفهم وجهة نظره وآراءه، ثم وافقها فيما وافق شرع الله ومنهاجه لنا في الحياة، ووضح له ما غاب عنه من الطريق التي أرادها الله لنا في هذه الرحلة الحياتية.. وإياك أن تتهور وتفرض عليه رأيك بالقوة أو العنف، فإن هذا يؤكد من جديدٍ له ما يقوله كثيرٌ من الألمان عن المسلمين، من أننا ضيقي الأفق ولا نسمح باختلاف الآراء، وربما ظن فيك ما هو أكثر من ذلك.. لذا اسمعه جيداً وحاججه بالمنطق أولاً، ثم بعد ذلك اعمل على تنقية قلبه وتدعيمه بالإيمان، فإنه أهم ما ينقص الناس هنا ويفتقدون حلاوته.
ثانياً: كن أنت له القدوة، فإن المرء قد يفهم من الكلام السماعي، لكنه يستقر في القلب والعقل حينما يراه عملياً منك، فليس من رأى كمن سمع، كما يقولون.. ثم إن تكرار العمل الصالح منك يجعل الأمر بالنسبة له واقعاً حياتياً طبيعياً، فلا تبخل عليه بهذا الواقع الجميل أبداً.
أما كيف تكون كذلك؟
الأمر بسيطٌ يا أخي الكريم.. اجعله يرى منك الصدق في المعاملة، فلا تعده بشيء لن تفعله مثلاً، ونفذ ما تقوله ولو كان ثقيلاً عليك، ليعلم دوماً أن الكلمة التي تخرج من لسانك هي أغلى من الذهب، وأصدق وفاءً من العقد.. ثم لا تفوت صلاةً واحدةً، لا سيما صلاة الفجر، وادع أهلك جميعاً للصلاة معك في جماعةً، فاجعل بيتك مسجداً، ولتدع ابنك للصلاة إماماً، لتشجعه على إتقانها.. واعلم أن هذه من أغلى النصائح وأصعبها، لا سيما في هذه البلاد حين تكون صلاة الفجر في قمة صعوبتها صيفاً، لكن لا تنسَ أبداً أن الله حين كلفك بها هنا، فهو يعلم صعوبتها عليك ويعلم أيضاً أنك قادرٌ عليها، لأنه سبحانه القائل: (لا يكلف الله نفسا ًإلا وسعها)..
حينها سيفرح بك أبوك إسماعيل عليه السلام لأنك اتبعت ملته حينما وصفه الله عز وجل لنا قائلاً: ﴿ وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ﴾
ثالثاً: ادع لأبنائك، وكن على نهج جدك إبراهيم عليه السلام حين قال مناجياً ربه سبحانه وتعالى: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾.. واعلم أن دعوة الأب مجابة، مصداقاً لحديث رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه: (ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شكَّ فيهن: دعوةُ المظلوم، ودعوةُ الوالد، ودعوةُ المسافر)..
يحكى أنه كان للفُضَيلِ بنِ عياضٍ ابنٌ اسمُه عليٌّ، وكان يدعو له قائلًا: "اللهمَّ إني اجتهدتُ أنْ أؤدِّبَ عليًّا، فلم أقدرْ على تأديبِه؛ فأدِّبْهُ أنت لي"، فاستجابَ الله دعاءَه، وأصلَحَ ابنَه، ومات عليٌّ باكيًا وهو يستمعُ القرآنَ!
رابعاً: كن صالحاً، فإن الله سيحفظ أبناءك بصلاحك، ما لم يكن يريد أن يبتليك فيهم كما فعل مع نوحٍ عليه السلام.. فإن القاعدة هي أن صلاح الأب يصل إلى الأبناء ويقيهم مصارع السوء في الدنيا.. ألم تقرأ كل جمعةً قوله تعالى في سورة الكهف: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾، لقد فسرها ابن كثير قائلاً: فِي الآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ صَلَاحَ الآبَاءِ يُفِيدُ العِنَايَةَ بِالأَبْنَاءِ.. وقال ابنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "حُفِظَا بِصَلَاحِ أَبِيهِمَا، وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُمَا صَلَاحٌ"...
خامساً: كن لأبنائك أكبر محبٍ لهم في الدنيا، يلحقوا بك في جنان الآخرة.. واقتدِ في ذلك بهادي الأمة ومرشدها صلوات الله وسلامه عليه، فقد روت عائشة رضي الله عنها: أن فاطمة (كانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبَّلها وأجلسها في مجلسه).. فهل ترى أكثر من ذلك محبةً، وهو الأعلى مكانةً بين البشر أجمعين، أي أنه ليس مجرد وزير ولا حتى ملك، بل هو أعلى من هؤلاء جميعاً مكانةً، ثم تراه يفعل ذلك مع ابنته؟
ثم اسأل نفسك مرةً، لماذا كان صلى الله عليه وسلم (يصلي وهو حامل أمامة حفيدته وبنت زينب ابنته صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها).. لماذا فعل ذلك؟ ألم يكن الأولى أن ينادي على أمها وهي ابنته أن خذي ابنتك لأنه سيصلي بكبار القوم؟!.. لقد فعل ذلك كي يعلمك ويعلمني كيف نتعامل مع أبنائنا وأحفادنا.. فهلا تعلمنا من خلقه الكريم؟
وهنا أختم الشق الأول من حديثي وأسأل الله أن يعنا على تصحيح ما لدينا من أخطاءٍ قصرنا بها في تربية أبنائنا،.. فاللهم أعنَّا ولا تُعِنْ علينا، اللهم لا تَكِلْنا إلى أعمالنا ولا إلى أنفسنا طرفة عين، يا أرحم الراحمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنما قوة السيف بضاربه.
=========================
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم
أما بعد..
عباد الله:
نعلم جميعاً أن الروح الخالدة أهم من الجسد الفاني، لذا وجب علينا أن نعمل لتغذية الروح قبل إطعام الجسد، فالروح هي محل العقيدة والقيم، وتربيتها تكون بتقوية الصلة بالله عز وجل في كل لحظة، وذلك بالعبادة والطاعة، وكلما توجهت الروح إلى ربها وخالقها، نمت وترعرعت، وإذا انحرفت عنه ذبلت وضعُفت واقتربت من مستوى الحيوانات أكثر وأكثر.. فاعملوا عباد الله على تنقيتها وتغذيتها بما يفيدها ويقربها من خالقها..
واعلموا أن تربية الأبناء فنٌ يستلزم منكم التعلم والاقتداء بخير الأنبياء، وأنه يجب التفرقة بين تربية البنات وتربية الأبناء.. فلكلٍ خصوصيته واحتياجاته النفسية والمعنوية، تماماً كما تهدي لهم لباساً أنثوياً أو ذكورياً حسب نوعه..
ولا تنسوا أحبائنا أن احتياجات أبنائكم تختلف باختلاف أعمارهم بطبيعة الحال، فالطفل الذي يخفق قلبه عادةً أكثر من 90 نبضةٍ في الدقيقة وهو ابن سبع سنين مثلاً، يكون أكثر حركةً من أخيه الأكبر ابن الخامسة عشر، فالأخير أقل حركةً ظاهريةً من الطفل، لأنه قلبه أهدى في حركته ونبضاته، لكنه أكثر عنفواناً في أحاسيسه ومشاعره المراهقة.. فعلينا إذاً أن نعيَ جيداً كل هذه الأمور وأن نتعامل معها بما يليق بها.
إخوتي الكرام.. ولا يفوتني أن أؤكد على أن الرفق بالأسرة هو زينة التربية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشةُ، ارفقي؛ فإنَّ اللهَ إذا أراد بأهلِ بيتٍ خيرًا دلَّهم على بابِ الرفقِ)
ومما يقتضيه خلقُ الرفقِ أن تكونَ للوالدِ عادةٌ في إهداءِ ما يحسنُ وإن قلَّ، وأنْ يتباسطَ في حديثِه مع أهلِ بيتِه، ويمازحَهم، ويشاركَهم لهوَهم المباحَ واهتماماتِهم وإن بدتْ هامشيةً، ويستشيرَهم مُظْهِرًا احترامَه لرأيِهم، وإعجابَه لصوابِهم، دون مصادمةٍ، أو تسفيهٍ، أو رفعِ صوتٍ، وإن أخطأ بادرَ بالاعتذارِ، وإن أخطَؤوا عليه بادَر بالصفحِ إن اعتذروا، وأن يلازمَ الصبرَ في احتمالِ نفارِهم وزلاتِهم، وأن يجعلَ لهم وقتًا كافيًا في الجلوسِ الإيجابيِّ معهم دون انشغالٍ بجهازٍ أو إظهارٍ للتبرُّمِ والمَلَلِ؛ متحدثًا إليهم، ومُحسنًا الإنصاتَ لهم.
وليس من باب الرفقِ تركُ تعوديهم المسؤوليةَ، وإغداقُ العطاءِ بما يصلُ إلى الترفِ؛ بل ذاك سببٌ لفسادِ الخُلُقِ وضَعْفِ الشخصيةِ؛ قال زيدُ بنُ عليٍّ لابنِه: يا بُنيَّ، إنَّ اللهَ لم يَرْضَك لي فأوصاك بي، ورضيني لك فحَذَّرنيك، واعلمْ أنَّ خيرَ الآباءِ للأبناءِ من لم يَدْعُهُ الحبُّ إلى التفريطِ، وخيرَ الأبناءِ للآباءِ مَن لم يَدْعُهُ التقصيرُ إلى العقوقِ..
وأخيراً أختم بحديثٍ رواه لنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– قائلاً: رأيت الحسن والحسين -رضي الله عنهما- على عاتِقَيِ النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: نِعمَ الفَرَسُ تحتكما! فقال -صلى الله عليه وسلم-: (ونعم الفارسان هما!)..
وهذا هو خير ختامٍ في حديثنا عن تربية الأبناء في الإسلام، والذي كان ينبغي لنا أن نطيل فيه كثيراً، لكن الوقت لا يسمح لنا بذلك في هذه العجالة.
ندعو الله العلي الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا جميعاً على حسن وإتقان تربية أبنائنا وأن يجعلهم لنا ولكم قرة أعينٍ في الحياة الدنيا وفي الآخرة.