خطبة الجمعة - الحياة والجهاد في أوروبا

7. Dezember 2023 durch
Event Manager

عباد الله..


من الغريب أن يتساءل البعض عن حكم العيش في أوروبا والغرب، ومن الأغرب أن نعيش في الغرب وكأننا غير مدركين أننا نعيش فيه.


وقد وردت إلينا بعض الفتاوي التي تحرم العيش في الغرب بشكلٍ قطعيٍ، وقد استثنى أصحاب هذه الفتاوى الذهاب للغرب للعلاج أو للدراسة المؤقتة.. وهنا أتساءل:


ألم يستجمع أصحاب هذه الفتاوى شجاعتهم ويحرموا على الحكام العرب السفر والتنزه بل والتحالف كخدام للغرب؟ ثم أليس من الإنصاف أن ينظروا إلى حال العرب والمسلمين وهم أكثر استضعافاً في بلاد المسلمين منهم في غيرها؟ ألم يأتِ إلى هنا الملايين من المسلمين فارين بدينهم وأنفسهم من بطش الجبارين في الأرض، أقصد حكام المسلمين الذين ينطبق عليه حرفياً قول القائل: أسدٌ عليَ وفي الحروب نعامةٌ....!!


إننا نجد اليوم جيوش العرب لا توجه مدافعها إلا للعرب ولقهرهم وإذلالهم.. في حين أنها تتحول إلى نعامةٍ وديعةٍ أمام غيرهم..!!


إن الإسلام يُلزم من تصدر للفتوى بأن يستكشف حال المستفتي قبل أن يصدر له فتواه، حتى أن الفتوى تختلف في ذات الأمر الواحد بين هذا السائل وغيره.. فهل استكشف أصحاب هذه الفتاوى -الغريبة عن واقعنا- حال المستفتين قبل أن يصدروا فتاويهم هذه؟!


لكن الأغرب من ذلك هو أن يصر البعض على قراءة كتب هؤلاء، بل واعتبارها مصدراً أساسياً للخطب والفتاوى على منابر المساجد في أوروبا.. ونسمع أحياناً في بعض هذه الخطب من يقف على المنبر قائلاً:


قاطعوهم، قاتلوهم،.. ويقصد هنا أهلَ هذه البلاد التي استضافتنا وأحسنت ضيافتنا أفضلَ من بلادنا بمراحل كثيرة.. والسؤال الغريب هنا: إذا كان هذا رأيك يا شيخ، فلماذا تعيش أنت في بلاد الكفر هذه؟ نحن بغير حاجةٍ لك ولفكرك الذي يتعامى عن واقعنا، ولا يتعامل معه..!


إن هذا السؤال قد وجهه إليَ أبنائي حين سمعوا مثل هذا الخطيب ذات مرةً، والحق أنني لم أجد مفراً من توضيح أن الشيخ منفصلٌ عن الواقع الذي يعيش فيه هو ونحن وجميع المسلمين، رغم أنه من غير اللائق أن أقول ذلك عن الشيخ أمام الأبناء، فلا ينبغي أن أهز أو أضعف مكان الخطيب والشيخ أمامهم.. لكن لم يكن لدي مفر من ذلك.


إن الحكم الفقهي لمن أراد أن يستعلم عن مدى جواز الإقامة في دول الغرب في أيامنا هذه، لينبني على نفس القاعدة التي أباح بل شجع رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فيها المسلمين على الهجرة للمدينة، ومن قبلها للحبشة، التي قال عن حاكمها النجاشي: أن فيها حاكماً لا يظلم عنده أحد..!


وهنا قد يتساءل أحدنا:


هل يمكن تشبيه حالنا في بلادنا بحال كفار قريش الذين قاتلوا المسلمين وعذبوهم في مكة؟ وهل الحكم في أوروبا أشبه فعلاً بحكم النجاشي في الحبشة؟! كي نستعير حكم الهجرة في صدر الإسلام لحالنا اليوم؟


وسنرد على السؤال بنهايته أولاً.. فنقول أن الحكم في هذه البلاد هو أشبه ما يكون بحكم النجاشي قولاً وفعلاً، فهم نصارى مثله، وعُدولٌ في أغلب أحوالهم مثله أيضاً، ويكفي أنك تستطيع أن تقاضي هنا رئيس الدولة نفسَه، وهو ما لا تستطيعه حتى في أحلامك الليلية في بلاد المسلمين حالياً.. بل إنني أعرف من قصص الانتخابات النزيهة في بلادنا أن جميع من رشح أو فكر في ترشيح نفسه ضد السيد الرئيس في إحدى الدول، قد تم سجنهم جميعاً بلا استثناء رغم أن منهم زملاؤه في الجيش الذي يفخر به، ومنهم الأعلى ومنهم الأقل رتبةً منه، فقط لمجرد أن تسربت الأخبار بأنهم يفكرون في طلب الترشح ضده..!


أما هل يمكن تشبيه حالنا اليوم بحال المسلمين أيام الجاهلية، فأقول بملء في: نعم.. فقد كان غالبية كفار قريشٍ أكثر رحمةً وشفقةً ومروءةً بالمسلمين، بالمقارنة بكثيرٍ من حكام العرب اليوم.. على الأقل كان لدى غالبيتهم بقايا مروءةً حينما كانوا لا يسجنون النساء ولا يعذبونهم، وهنا أذكركم بقصة أبي جهلٍ حينما أخذ كفار قريش من كل قبيلة رجلاً ليقتلوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد ظلّوا واقفين أمام بيته طوال الليل. وعندما اقترح أحدهم اقتحام المنزل، زجره أبو جهل قائلاً: "وتقول العرب روّع عمرو بن هشام بنات محمد وهتك حرمة بيته"؟!!!


‏نعم، كانت لديهم نخوةٌ وأخلاق، يفتقر إليها أكابر مجرمي جاهلية اليوم ..!!


فما رأيكم يا أصحاب فتاوى تحريم الهجرة إلى الغرب في هذا العصر؟!!


وبعد أن تناولنا حكم العيش في الغرب، وأوضحنا أنه من باب الهجرة التي أمرنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه من باب التوسعة على المسلمين في حالهم اليوم، فإننا هنا ننتقل إلى الشق الثاني من موضوعنا، ألا وهو أبناؤنا، ثم أبناؤنا.. وهل ينطبق عليهم قوله صلوات الله وسلامه عليه: (ففيهما فجاهد)؟


هذا ما سنتناوله إن شاء الله في الخطبة الثانية إن أراد الله لنا ذلك.


نسأل الله أن يعنا على جهاد أنفسنا، وتقوية عزائمنا،.. فاللهم أعنَّا ولا تُعِنْ علينا، اللهم لا تَكِلْنا إلى أعمالنا ولا إلى أنفسنا طرفة عين، يا أرحم الراحمين.


أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنما قوة السيف بضاربه.

ـــــــــــــــ ــــــــــــــــ ــــــــــــــــ ــــــــــــــــ

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم


أما بعد..


عباد الله:


حديثنا في خطبتنا الثانية عن الجهاد في الغرب.. فهل هو جهاد السيف؟ أم جهاد الكلمة؟ وأين ومع من يكون؟


من جهتنا نعتقد جازمين أن جهاد الكلمة هو المطلوب هنا، لسببين، الأول أننا في بلاد الغرب نفسها ولا يجوز أن يقدموا لنا الحماية فنغدر بهم ونرد لهم الجميل بالعكس، وبما يخالف أخلاق المسلمين أصلاً، ثم إنهم حتى لو كانوا في بلادنا نحن فهم ليسوا محاربين لنا كي نحاربهم، بل العكس هو الصحيح، إنهم آوَوا الكثيرين منا حين غدرت بهم بلادهم.. أما السبب الثاني وهو لا يقل أهميةً عن الأول، فهو أنه مع تقدم التكنولوجيا وزيادة أهمية الإنترنت تزداد أهمية الإعلام الإلكتروني بشدة، والذي من مميزاته أنه أكثر حريةً وتأثيراً من الإعلام التقليدي.


وبهذا يكون قد تأكد لدينا أنه جهاد الكلمة لا السيف.. أما الإجابة عن (مع من يكون؟) فهي التي تستحق أن نركز عليها أكثر.. وهنا نستعير قول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في صحيح مسلم، عندما سأله صحابيٌ طالباً المشاركة في الجهاد فسأله النبي: (لك أبوان؟) قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد).. وقد حمل المفسرون للحديث بأنه قد المسلمون حينا قد اكتفوا من عدة القتال والمقاتلين، وأن أول من يستحق المجهود والجهاد هنا كان الوالدان كما أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابي الشاب.


أما وأننا لسنا بحاجة لجهاد السيف هنا كما أسلفنا، فيتبقى لنا السؤال: عمن يستحق الجهاد معه بالدرجة الأولى، أهما الوالدان اللذان يغيبان عن معظمنا في هذه البلاد؟ أم المجتمع؟ أم الأبناء في البيت؟ أم هي الأسرة بجميع مكوناتها؟


والحق أننا نراها على الأرجح الأخيرة.. فالزوجة قد ضاق بها الأمر وتعيش كآبة الانعزال والانطواء في هذا المجتمع، وهي التي لا تحسن الحديث بلغته ابتداءً، والزوج لا يختلف حاله كثيراً عن زوجته، ثم الأولاد الذين هم أحوج ما يكونون للرعاية في ظل المواجهة الكبيرة مع المجتمع هنا، وانعدام وضوح هويتهم فيه، وكيف أنهم لا يجدون إجاباتٍ عن أسئلةٍ كثيرةٍ تواجههم ولا يستطيع الأب الجواب عليها، ثم أخيراً لا يجدون مكاناً لهم في أغلب المساجد عند وصولهم لسن المراهقة الحرجة جداً..!! فمن لهم؟


وهنا نستعين بالله ونقول:


إن هذه البلاد قد أتاحت لنا العديد من الفرص، ولا زالت.. لكن المشكلة تكمن في كيفية معرفة هذه الفرص ابتداءً ثم في كيفية استغلالها.. فلو نظرنا مثلاً إلى الأنشطة الشبابية، لوجدنا أن الدولة تدعمهم بقوة، وتفتح ذراعيها لمن يؤسس أنديةً لهم، سواءٌ كانت رياضيةً أو اجتماعيةً، فلو أسسنا مثلاً نادياً اجتماعياً أو ما يسمى بالـ Jugend Club، لدعمتنا الدولة مالياً فيه بشكلٍ كبيرٍ.. ثم إنها من الناحية الأخرى تدعم الأسرة بمائتي يورو شهرياً لكل طفل، فلنأخذ منها عشرها على الأقل لصالح هذا الابن أو البنت اجتماعياً، سواءٌ كان في رحلةٍ أو في نادٍ وما شابه.. لكننا نريده نادياً صحياً من الناحية الفكرية، لا نادياً منحرفاً.. نادياً يجد فيه أقرانه من عمره وفكره، بعد أن افتقد أمثالهم كثيراً بهجرته إلى هذه البلاد. نادياً يجد فيه هويته وفي نفس الوقت ما يقوي اندماجه بشكلٍ صحيٍ في مجتمعه الحالي والمستقبلي. نادياً لا يشعر فيه أنه غريب ومنبوذ، بل مرحب به فيه، وبمثابة بيته الثاني. نادياً يتعلم فيه الجديد المفيد، بأسلوبٍ من الترفيه الممتع، لكنه مفيدٌ له في مستقبله.


إننا نخطئ بشدةٍ عندما تأتي العطلات المدرسية، كتلك التي نحن بصددها الآن، والتالية التي في ديسمبر، ثم لا يجد أبناؤنا ما يفعلونه فيها، والتي غالباً ما يقضون نصفها في النوم، والنصف الآخر في اللعب على الكمبيوتر والهاتف، والسبب أن الأسرة مفرغةٌ فكرياً هي الأخرى ولا تجد ما تقوله لهم.. وهنا ينطبق قول الشافعي الشهير: والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل.. فهل نسينا هذه المقولة؟ وهل عملنا لها؟؟


إننا في لقاءتنا الأسرية الأسبوعية لا نهدف إلى تضييع الوقت كما قد يتبادر إلى الأذهان، ولا إلى ملء البطون بالطعام كما يبدو ظاهرياً من أننا نجعل الطعام أحد مكونات لقاءاتنا الأساسية.. بل نتحاور كل مرةً عن موضوعٍ يهمنا جميعاً، نتبادل فيه الآراء المفيدة ممن هم أعلم من غيرهم فينا، وفي نفس الوقت يلهو أطفالنا وأبناؤنا من الشباب مع بعضهم البعض.. إنها الأسرة الكبيرة التي نسعى بقوة لبنائها في كل مدينة هنا.


فهلا مددتم أيديكم لبعضكم البعض في هذه اللقاءات.. ونكرر أن الأمر ليس مادياً على الإطلاق، بل هو لكم وبكم.. كما نوضح أننا نتعلم في ذلك ونحسِّن آداءنا مرةً بعد الأخرى، فقد تعلمنا أن نجهز الخيام كي تكون أكثر راحةً للنساء والأطفال، خصوصاً لو هطلت أي أمطار مفاجئة في اللقاءات الخارجية.. ثم تعلمنا أن حواراتنا لا يجب أن تكون منفصلة وأن نستمع للرجال والنساء ونستفيد منهم معاً، دون أن يتخالطوا، فأعددنا لذلك العدة الفنية بما سترونه في المرات القادمة إن شاء الله.. وأخيراً نؤكد أن لدينا في جعبتنا الكثير، لكنه ينمو فقط بكم.. فاحرصوا على ما يفيدكم وأسركم جميعاً.


ندعو الله العلي الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يطمئننا على أبنائنا وأبنائكم، فهم كنزنا الحقيقي.