الحمد لله المُنعِم على عباده بدينِه القويم وشِرعته، هداهم لاتِّباع سيِّد المُرسلين والتمسُّك بسُنَّته، وأسبغَ عليهم من واسعِ فضلِه وعظيم رحمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له دعوةُ الحقِّ يُخرِج الحيَّ من الميت، ويُخرِج الميتَ من الحيِّ، يُسبِّح له الليلُ إذا عسعسَ والصبحُ إذا تنفَّس، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ المُرسلين، وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، بلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمةَ، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾.. وعليكم إخوتي بتوحيد صف المُسلمين؛ فإن يدَ الله مع الجماعة كما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله مع الجماعة"..
عباد الله..
يشتكي بعضنا من التشدد الفرنسي الحالي ضد المسلمين، ولهم حق في ذلك.. لكننا لو نظرنا بعينٍ فاحصةٍ قليلاً لوجدنا أن كثيراً من أشد المتعصبين ضد العرب والمسلمين في فرنسا هم من أبناء وحفدة العرب أنفسهم.. حتى أن بعض أشهر قادة اليمين المتعصب المرشحين للرئاسة هناك إما من آباءٍ مصريين أو جزائريين، ومنهم من ولد ونشأ في مصر والجزائر مع أسرته.
بل إن الأمر يزداد وضوحاً حينما نعلم أن أشد وزراء الحكومة الحالية ضراوةً ضد المسلمين، هو حفيدٌ لجزائري مسلم كان يعمل في الجيش الفرنسي في الجزائر ضد المقاومة الجزائرية..!
وهنا لنا أن نتساءل:
لماذا كل هذا؟
لماذا يرى أحفاد العرب هؤلاء في الإسلام عدوهم الأكبر؟!
ولماذا يعتبرون أنفسهم فرنسيين أكثر من الفرنسيين أنفسهم، كما وصفت مرشحة الرئاسة السابقة أحدَهم؟! ذلك الذي كان اسمه حساماً فسمى نفسه جون!!
فهل يتحول بعض أبنائنا إلى أشد أعدائنا؟
الحق أن هذا لو حدث فسيكون أكبر كارثةٍ يمكن أن نمر بها في حياتنا، والحق أيضاً ان هذا قد حدث بالفعل لدى البعض كما ترون في فرنسا.. وقد يقول قائلٌ بأن هذا نادر الحدوث إذا ما قارنا عدد المتحولين هؤلاء بعدد العرب الإجمالي هنا، وهذا صحيح، لكن هذه الندرة مؤثرةٌ جداً كما ترون جميعاً.. لذا فمن الواجب علينا دراسة الأمر وأسبابه، والعمل على تجنبه، حرصاً على أبنائنا أولاً، لا على أنفسنا.
قال ابن القيم في الوابل الصيب:
النفس ان لم تشغلها بالحق.. شغلتك بالباطل
وهو ما أكده الشافعي وغيره في أكثر من موضعٍ، وكأنه ينصحنا بذلك كحلٍ لهذه المشكلة التي نحن بصددها.. فالدراسات العلمية الأخيرة في ألمانيا تؤكد مراراً وتكراراً أن فاقدي الهوية من أبناء المسلمين يكونون أكثر ميلاً إلى التطرف، سواء إلى اليمين أم إلى اليسار، بل ربما نراهم من أعضاء الحركات الإرهابية المفزعة.. ويرجع هذا إلى أن فقدان الهوية يجعل الإنسان عرضةً للتمسك بأي فكرٍ سطحيٍ يطرح عليه ويرى فيه التخلص من ضعف شخصيته وهويته الذي يتألم منه داخلياً.
وكما أوضحنا في السابق، فإنه لم ولن يرى المجتمع أبناءنا على أنهم ألمان، بل سيظل يراهم في أفضل حالٍ: ألماناً من أصلٍ عربيٍ..!
ومن ناحيةٍ أخرى سيرى العرب أن أبناءنا ليسوا عرباً، لأنهم قد انسلخوا من بعض سمات بني جلدتهم.
وهو ما يعني في النهاية أن من كانت هويته لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فانتظر منه مسخاً ثقافياً أجوفاً، ينتظر أن يملأه أحدٌ ولو بفضلات الفكر، مهما كان سطحياً أو ساذجاً.. تطبيقاً للقاعدة:
إن لم نشغل نفوسَ أبنائنا بالحق، فالباطل ينتظرهم ويتلهف للانقضاض عليهم.
هذا هو الحل الذي تؤمن به وتتفهمه الحكومة الألمانية أيضاً، وهو أنه لا يمكن لَيُّ عنق الحقيقة، فلن نكون ألماناً، لكن يمكن أن تكون لنا كامل حقوق المواطنة، إن نحن التزمنا بكامل واجباتها... لا أكثر ولا أقل.
إن من يشكك بأن الإسلام لا وجود له في ألمانيا، لا يعبر عن دستور أو قانون هذه الدولة بأي حال، ويجب علينا أن تكون لنا إجابةٌ مسموعةٌ ومدويةٌ بنفس قوة سؤاله وانتشاره بين المجتمع، وهي: نعم، الإسلام في ألمانيا منذ مئات السنين.. ودليل ذلك تلك المساجد الموجودة حتى الآن، والتي بنيت قبل مئات السنين هنا في هذه البلاد.. بل إننا سنكثف من رحلاتنا كمسلمين إليها، كي يدرك أبناؤنا ذلك بشكلٍ عمليٍ ملموس..
وفي المجمل: إن ألمانيا تحتاج إلى المسلمين، كما يحتاج المسلمون إلى ألمانيا.
لن نشرب الخمر، ولن نقبل لنا ولأولادنا أكل ما حرمه الله، وما إلى ذلك.. لدينا مكارم الأخلاق، سنتمسك بها.. وسنكللها باحترام قوانين البلاد هنا، ونرد لأهلها الجميل حين استقبلونا، فهذا من خصال المسلمين الكرماء.
لكننا في نفس الوقت سنسعى وبكل جهدٍ أن نحصل على كامل حقوق المواطنة للمسلمين.. فلسنا نقبل بأن نكون من مواطني الدرجة الثانية.
عباد الله.. الحل إذاً بوضوحٍ هو أن نؤدي واجبنا تجاه أبنائنا، ونجبر النقص الحاد المتجذر داخلهم الآن.. فهل يستطيع أحدكم ذلك بمفرده؟
لا.. لا أعتقد أنك كأبٍ مثلاً قادرٌ على تأدية هذا الدور بمفردك، ولو كنت كذلك لرأينا فيك صلاحَ الدين في عصرنا الحديث، ذلك الرجل الذي كان يزن أمةً بمفرده.
إن الواقع يؤكد لنا أن هذه مهمةٌ جماعيةٌ، لا يكفي فيها الأب ولا الأم وحدهما، ناهيك عن أنهما أصلاً بحاجةٍ إلى من يهتم بهما ويعتني بمشاكلهما.
والواقع أيضاً يؤكد عِظم هذه المهمة وكِبَرَ حجمها، فمن لها يا تُرى؟
بالعودة إلى صلاح الدين، نجد أنه لم يكن بمفرده، بل كان هو من شحذ هِممَ الأفراد من الأمة، كي يكونوا منظمين، الواحد فيهم كالترس أو القرص المسنون في الساعة، ثم تناغمت وتضافرت جهودهم مع بعضها البعض، فدارت أخيراً وبهم جميعاً عقاربُ الساعة إلى الأمام.
لكن ماذا يعني هذا؟
ببساطة.. ابحث يا أخي عمن يعمل من أجل المسلمين في هذه البلاد، وتيقن بعد ذلك من أنه يحترم قواعد العمل المجتمعي العام فيها، كي يكون مؤهلاً لقيادة المسلمين هنا.. ابحث عنه وضع يدك في يد جموع المسلمين، كي تستطيعوا تحقيق الاستقرار الداخلي لأبنائكم، وبما لا يتصادم مع الأطر الأساسية العامة للمجتمع الذي نعيش فيه.
اعمل كترس الساعة الذي لا يتوقف، وهو يدور في محيطه هنا وهناك حتى يجد تلك المنظومة المتكاملة المتعاونة ويأخذ مكانه فيها، فيكون جزءاً من ساعةٍ تتقدم بنا جميعاً للأمام.
عباد الله.. إن كثيراً منا لا يتفهم أهمية تناغم العمل المشترك، وكأنه يغمض عينيه عن أبسط قواعد الحياة.. فلو غردت مثلاً بمفردك بصوتٍ ما، ثم جاء آخر وفعل مثلك بصوته الخاص، ولا قيادة لك وله، فستكون النتيجة ضرباً من الصوت النشاذ غير المفيد، سيهرب منكما السامعون، ولن يلتفت إليكما أحد.. تماماً كما هو حالنا الآن في هذه البلاد.
لكنكما لو نسقتما مع بعض، فقد نسمع لحناً جميلاً، لو أحسنت القيادة توجيهَكما.. لكن بدون التنسيق ستكون النتيجة حتماً سيئةً جداً.
ولو قلنا لطفلٍ ما امسك بهذا الحبل وشد من ناحيةٍ، وقلنا لآخر شد من الناحية العكسية، فالنتيجة حتماً ستكون صفرية تماماً.. لكن ماذا لو تضافرت جهود الجميع. بتنسيقٍ مدروسٍ؟
إن تجميع جهود مجموعةٍ من الأطفال الصغار قد يشد قطاراً ضخماً، وهو ما لم يكن يتوقعه هؤلاء الأطفال من قبل.. أي أن باستطاعتنا تحريك الجبال لو أردنا، أو بمعنىً آخر، لو توحدت جهودنا أخيراً.
وهنا أختم الشق الأول من حديثي وأسأل الله أن يعنا على تصحيح ما لدينا من أخطاءٍ،.. فاللهم أعنَّا ولا تُعِنْ علينا، اللهم لا تَكِلْنا إلى أعمالنا ولا إلى أنفسنا طرفة عين، يا أرحم الراحمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فإنما قوة السيف بضاربه.
=========================
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد..
إن من المؤسف أن تكثر اتحادات المسلمين في هذه البلاد، دون أن تكثر أو تتعاظم نتائجها.. ففي الولايات المتحدة يتم الاعتراف بالشريعة الإسلامية في أمور الزواج والميراث مثلاً، مثلما نفعل نحن في بلادنا مع من يدين بغير دين الدولة، لهم دينهم ولنا ديننا.. لكن في ألمانيا لا يتم الاعتراف بالإسلام كدينٍ رسميٍ بهذا المعنى، فلو أردت الزواج عليك بالالتزام بالقانون وفقط، ولا وزن لشريعة الإسلام في زواج المسلمين!! فعن أي دورٍ لهذه الاتحادات الإسلامية نتحدث؟!!
ولو نظرنا إلى عناصر القوة التي يجب علينا استغلالها لصالح المسلمين هنا، لوجدنا أننا نفتقد غالبية تأثيرها الإيجابي، بل إن المحصلة سلبيةٌ بشكلٍ كبيرٍ.. فالإعلام مثلاً لا يتحدث في غالب الأمر عن المسلمين إلا بالسوء، وهو يساهم في جرائم كثيرةٍ بسبب ما يمكن أن نسميه بإعلام الكراهية الذي يفرق بين عناصر المجتمع الواحد ويثيرهم ضد بعضهم البعض بهذه الطريقة.
ولا يجب أيها الإخوة أن نكتفي بلوم غيرنا فحسب، أي لا ينبغي أن نلوم ضعف تأثير الاتحادات الإسلامية المختلفة، ومن بعدها تعاظم إعلام الكراهية المسيطر على وسائل الإعلام هنا، ثم نتناسى دورنا الإعلامي الشخصي.. فمعظمنا يخطئ حين يكتفي بالحديث إلى بعضنا البعض وفقط، وينسى أن عليه أن يوصلَ صوت المسلمين لغيرهم، كي يدركوا أن لنا صوتاً ومطالب.. لا ينبغي أبداً أن يكون فمك في أذن أخيك، فهذا ليس إعلاماً جيداً، لأنه موجهٌ في غير وجهته، إذ نريد أن نخاطب باقي عناصر المجتمع، لا أن نكتفي بمخاطبة المسلمين للمسلمين وفقط..!
ثم لو نظرنا إلى الانتخابات القادمة بنفس مثال لعبة شد الحبل بين الأطفال، لعلمنا أن تفرق أصواتنا سيؤدي دوماً إلى محصلةٍ صفريةٍ لقيمتها.. يجب أن نتوحد خلف من يقدم للمسلمين أفضل الخدمات والحقوق، يجب أن نقويه ونتقوى به، لا أن نفرق أصواتنا ونمحوَ تأثيرنا هكذا كما فعلنا طوال عشرات السنين الماضية.
حين نقف سوياً على جانبٍ واحدٍ من الحبل، سيمكننا شد وتحريك الجبال لصالحنا وفي اتجاهنا.. فهل نعي هذا؟
والتزاماً بالقانون، لا نريد أن نستخدم منابر المساجد للانضمام لحزبٍ بعينه، لكننا ندعو لتوحيد القوى والأصوات، بهدف تعظيم النتائج كي ينال المسلمون بعضاً من حقوقهم المهضومة التي ذكرنا اليسير منها من قبل.. ففي الوقت الذي لا ننكر فيه على الجالية اليهودية في دوسلدورف حصولهم على مدرستين لعدد سبعة آلاف يهودي بالمدينة، نطالب بأن يكون لـ ٥٥ ألفاً من المسلمين مدارس إسلامية، أسوةً باليهود.. ولن نصل لمثل هذه المطالب إلا بالتوافق والتوحد.. فهل سنظل أيضاً بعد اليوم صامتين متفرقين؟!!
إخوتي في الإسلام.. أختم خطبة اليوم بجملةٍ رائعة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه: (الطريق من هنا)
حيث سأل نفسَه قائلاً: أين سيكون موقعي على خريطة التغيير؟
أسوف أكون مع المساهمين في إزاحة العوائق؟
أم عائقا يسعى الآخرون لإزاحته؟!
سؤالٌ يجب على كلٍ منا أن يجيب عليه كلَ يوم..
أدعو الله العلي الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يعيننا جميعاً على حسن وإتقان تربية أنفسنا من جديد.
ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير، واتقوا الله عباد الله، وإني داعٍ فأمنوا:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وقنا واصرف اللهم عنا برحمتك شر ما قضيت..
اللهم يا واصل المنقطعين أوصلنا إليك، اللهم حبب إلينا طاعتك، وكل ما قرب إليها من قولٍ وعمل، وكره إلينا معصيتك، وكل ما قرب إليها من قولٍ وعمل.
اللهم اجعل أفضل أعمالنا خواتيمها، واجعل أسعد أيامنا يوم أن نلقاك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كن لإخواننا المظلومين، وارفق بهم وهَوّن عليهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم عجل للحق بنصرك المبين، وثبتنا عليه بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لك يا رب العالمين.